لم يكن صوتها غريبا على أذني وعندما ذكرت لي اسمها تذكرتها على الفور فلم اصدق ما سمعت وقلت في نفسي أحقآ هي!!!…أهذه من أغلقت قلبي وجعلته سجين أحزانه وذكرياته؟؟
نعم..إنها هي قد عادت بعد عشر سنوات لتعيد لي ما اعتقدت أنني نسيته,تتصل بي لتتطلب مني موعدآ فحددت لها الموعد وأغلقت الهاتف من دون أن اعلم كيف بدأت معها الحديث وكيف أنهيته فقد مرت هذه الدقائق كالطيف بلا بداية او نهاية
جلست على الكرسي وبدأت أتذكر بالماضي,,حينها كان عمري عشرين سنة وهي في السابعة عشر من عمرها,تعرفت عليها عن طريق أخيها واسمه جمال فقد كان يدرس معي الحقوق في نفس الجامعة في القاهرة..
كان جمال من الشباب المجاهدين والمدافعين عن وطنهم ,فقد كان يوزع المنشورات ويشارك في المظاهرات.كنت من اشد المعجبين بشجاعته فتقربت منه وطلبت المشاركة في الدفاع عن الوطن,,رحب بي سمح لي بالمشارك معهم
قمنا بالعديد من العمليات وأهمها كانت آخر عملية والتي تكللت بالنجاح حيث قمنا بتفجير أكثر من 4 مستعمرات من دون أن يصاب احدنا بأذى وبهذه المناسبة دعانا جمال إلى بيته لنكمل فرحتنا بالانتصار.. حضرت أخت جمال ومعها العصير فقدمته لنا وجلست لتستمع لما حدث في ذلك اليوم,,,عرفتنا عن نفسها وقالت بان اسمها إسراء..
يا لجمال هذا الاسم قد أسرتني بجمالها وذكائها فقد كانت رقيقة كالنسيم بعينين خضراوين كربيع جاء بعد شتاء طويل وشعر اسود مسدل على كتفيها كما لو أنها وضعت شالا من حرير وصوت كصوت الناي حزين لكنه يفرح من يسمعه ويجعله في شوق له كلما صمت…فهي ساحرة بكل شيء..
تجاذبنا أطراف الحديث وأخذنا الوقت بعدها قمنا ودعناهم وغادرنا
وصلت المنزل لكن كان عقلي وقلبي معها,,لست ادري كيف استطاعت دخول قلبي بتلك السهولة..
في اليوم التالي ذهبت إلى الجامعة وتفاجأت بان الإنجليز قد قبضوا على جمال وبعض من أصدقائنا فغضبت ونظمت مظاهرة مع طلاب الجامعة نطالب بخروج أصدقائنا من السجن وبعد أيام أفرجوا عنهم لعدم توفر الأدلة التي تثبت تورطهم بتلك العملية فرحت جدا لهذا الخبر فذهبت لبيته كي أهنئه بخروجه من السجن,فتحت لي الباب ودعتني للدخول مرحبة بي وقد شكرتني على ما فعلته من اجل أخيها فأخبرتها باني لم افعل شيئا وانه خرج لعدم توفر الأدلة عليه قاطعني جمال بدخوله مخبرني بأنني أيضا ساهمت بإخراجه من السجن ثم رحب بي ودعاني للجلوس فأخذنا بالحديث علمت من إسراء بأنها في المرحلة الثانوية وبأنها تجد صعوبة في دراسة التاريخ لزخم المعلومات فيه.
عرضت مساعدتي لها,,فالتفتت لأخيها طالبة موافقته فوافق على الفور خاصة بأنها أخته الوحيدة وليس لها سواه بعد استشهاد أبيهما ووفاة الأم بعده بسنوات قليلة فأصبح يعتبر نفسه الأب والأخ لها فيحاول قدر استطاعته أن يعوضها عن حنان الأم والأب
ومنذ دلك الوقت وأنا اذهب إليها كل يوم في الساعة السابعة مساء لا درسها المادة وفي أوقات الاستراحة كنا نجلس سوية ونتحدث بمواضيع شتى,,كنت أتعلق بها كل يوم أكثر من الذي قبله حتى أصبحت لا تخرج من أفكاري فهي دائما موجودة في فكري,,كنت اعد عقارب الساعة ثانية ثانية حتى تأتي الساعة التي سأذهب إلى رؤيتها بها
أصبحت قليل الكلام مع أصدقائي فكان جل تفكيري إمكانية التقرب منها وفيما إذا ستوافق أم لا,,وفي يوم سألني احد أصدقائي واسمه حسن عن سبب هدوئي وجدت سؤاله كأنه جاء منقذا لي لأبوح بسر أصبحت أجده ثقيلا علي أخبرته بكل شيء وعندما انتهيت وجدته يضحك ويقول لي أنت أيضآ!!
غضبت من ردة فعله وسألته عن قصده بما قال,اخبرني بان هنالك كثيرون ممن أحبوها واعترفوا لها لكنها لم تأبه بهم ولا بمشاعرهم وحذرني من أنها لا تعرف معنى أن يحبها شخص ما.
قلت له بأنها ربما لم تجد من بينهم الشخص المناسب وانه لا يحق له أن يحكم عليها هكذا من دون أن يعرفها جيدا,,وصممت في نفسي أن اعترف لها بحبي وليحدث ما يحدث.
غادرت إلى المنزل بعد انتهاء محاضراتي وانتظرت حتى جاء موعد ذهابي إليها بعد انتهاء الدرس فاتحتها بالموضوع وأخبرتها بأنني أحبها وأريدها زوجة لي ,انتظرت جوابها كانت في حالة من الدهشة والخجل نظرت إلي وردت بالموافقة لكن بشرط ألا اخبر أخاها حتى تنتهي من الثانوية,وافقت دون أن أسألها عن سبب طلبها ذلك لأنني كنت في منتهى السعادة وبعدها استمرت لقاءاتنا التي كنت اعتبرها من اسعد لحظات حياتي,وفي يوم ذهبت مبكرا على غير عادتي فوجدتها تتحدث مع احد اكبر الجواسيس وهو السيد أنور لقد كان هذا العميل ينقل أي معلومة تصل إليه إلى أيدي الإنجليز
انه شخص بلا ضمير يبيع وطنه من اجل بضعة نقود,لقد كان بالنسبة لنا وباء يجب التخلص منه…
انتظرت حتى ذهب بعدها عدت إلى البيت من دون أن ادعها تراني وقد كنت بمنتهى الغضب لكنني لم احتمل أن أبقى هكذا لا اعرف ما لذي يجري فذهبت إليها لأعرف سبب وقوفها معه..
قابلتها وسألتها فأجابتني بأنه يكون خال إحدى صديقاتها وأنها كانت تسأله عن سبب غياب صديقتها فقط لا غير,,وطلبت مني ألا اخبر أخاها بما حدث فوافقت بشرط ألا تقف معه مرة أخرى مهما كانت الأسباب وعدتني بذلك ومن بعدها لم اعد أراها تقف معه..
وبعد عدة أسابيع اجتمعت أنا وجمال وعدد من الفدائيين وقمنا بالتخطيط لعملية سرية ضد الإنجليز إلى أن جاء اليوم المحدد فنفذنا خططتنا لكن للأسف كان الإنجليز لنا بالمرصاد فما أن بدأنا بتنفيذ خطتنا حتى هاجمنا العدو وبدأوا بإطلاق النار علينا,فبعضنا هرب والآخر قتل ومن بين من قتلوا جمال..أما أنا فقد أطلقوا النار على كتفي لكنني وبحمد الله استطعت الهروب إلى احد مخابئنا السرية وهناك ضمدت جرحي ونمت من شدة التعب وعندما استيقظت وجدت جرحي ينزف بشدة حاولت الحركة فلم استطع,, انتظرت حتى جاء الليل فتحاملت على نفسي وخرجت متخفيا إلى أن وصلت لمنزل احد أقاربي الموثوقين وهناك أغمي علي وعندما أفقت علمت بأنهم احضروا لي الطبيب وقد اخرج من كتفي الرصاصة وطمأنني بان الجرح بسيط..
استمر اختبائي عندهم مدة ال 3 اشهر إلى أن خفت الأوضاع وتأكدت بأنهم لم يعودوا يبحثوا عن الهاربين فخرجت متخفيا وذهبت الى منزلي وجدته مقلوبا رأسا على عقب علمت من هذا بأنهم كانوا يبحثون عني,,,رتبته وأخذت حماما ساخنا ثم لبست وذهبت عند إسراء لأراها واعزيها بأخيها,,طرقت الباب ففتحت لي وطلبت مني الدخول أخذت أواسيها إلا أنها لم تستطع أن تمسك نفسها فأجهشت بالبكاء أخرجت منديلا من جيبي كي امسح دموعها لكنها ابتعدت عني واخذت تتكلم بكلام غريب,,قالت لي بانه حان الوقت لتصارحني بحقيقة مشاعرها تجاهي وبانها تحب شخصا غيري,,جن جنوني وسالتها عمن يكون ذلك الشخص فاخبرتني بانه السيد انور وانها خشيت من ان اخبر اخاها فيغضب منها وبانها لم ترد ان تؤذي مشاعري فوافقت على طلبي الى ان يأتي الوقت المناسب لتخبرني بالحقيقة وها قد جاء…
وجدت كلامها كالصاعقة سألتها كيف احبته وهوالسبب في مقتل اخيها,,فوقفت واخذت تدافع عنه وتقول بانه لا دخل له بما حدث حتى انه لم يكن يعلم بان مثل هذا الشيء سوف يحدث بل على العكس تفاجأ مثلنا وباننا نظلمه باتهامنا له بانه عميل فهو رجل طيب جدا وقد وجدت به الاب الذي فقدته والاخ الذي كان كل اهتمامه بتلك السياسة التي الحقت به الاذى واخذت تتحدث وتتحدث عنه.
وجدتها انسانة غريبة لم اعرفها من قبل وكانني اراها اول مرة.
اين تلك الفتاة التي كانت تفرح لانتصاراتنا وتشجعنا بالتقدم للامام؟؟ هل كان كل ذلك وهم!!!سراب!!!.لا ادري
لقد كان كلامها صدمة كبيرة لي كأنها وضعت في قلبي جمرة من نار خرجت من عندها وانا محروق معذ ب…كيف وثقت بفتاة مخادعة كهذه كيف؟؟؟؟
وقد حذرني منها اعز اصدقائي وانا كالغبي غضبت منه وعاتبته على كلامه..
لكني كنت احبها والعاشق لا يرى في محبوبته الا كل معاني الاخلاص والتفاني بالمحبة..
دخلت بيتي وانا مهزوز ضعيف لكني مسكت نفسي وقررت ان ابدأ حياتي من جديد وانساها..
ومن يومها وانا ادرس واعمل بكل جهدي لاخرج المعتدين من بلادنا وانتقم لنفسي ولكل من استشهد من اصدقائي,,فقمنا بعد عمليات ناجحة انا وحسن وعدد كبير من الفدائيين المحبين لوطنهم,,إلا ان تم ما اردنا فبعد حوالي السنة خرج الانجليز وكان ذلك عام 1954م.
لن انسى ذلك اليوم ما حييت فقد احسسنا بطعم الحرية الذي افتقدناه زمنآ طويلآ..
بعدها تشكلت حكومة بقيادة عربية وانا تخرجت من الجامعة,,وبعدها بسنوات اصبح نقيبا للمحامين اما حسن فقد اصبح قاضيا باعتبار اننا كنا من الفدائيين المميزين
وهو الان متزوج ولديه ولدين..
هذا هو حالي حتى هذا اللحظة التي اتصلت اسراء تطلب ان تراني فيها…
ترى مالذي تريده مني بعد كل تلك السنوات,,مالذي ذكرها بي؟!!
جاء اليوم التالي وهو اليوم الذي ستاتي به اسراء,كنت مرتبكا جدآ,,كان يدور في ذهني اسئلة كثيرة,,ماذا سأقول لها وكيف هي الآن هل تزوجت ام بقيت مثلي لم تتزوج بعد..
دق جرس الباب فطلبت من خادمي ان يفتح الباب وكانت هي,,دعاها للدخول فذهبت وسلمت عليه,,لم تكن تلك الشاب اليافعة التي عهدتها من قبل بل اصبحت امرأة حزينة في وجهها تعابير الألم والأسى..
طلبت منها الجلوس وبدأنا بالحديث أخبرتني عن ما حصل لها منذ آخر مرة رأتني بها.
فعلمت منها بأنها تزوجت من السيد أنور منذ ثماني سنوات وكانت سعيدة بزواجها الى أن خرج الإنجليز وامسك الثوار به وادخلوه السجن لخيانته,,بقي مسجونآ لمدة سنة بعد محاولاتها لإخراجه خففوا عليه الحكم لمدة 3 سنين إكراما لها ولأخيها الذي استشهد,لكن بعد خروجه من السجن تغير كثيرا ولم يعد الشخص اللطيف الذي عهدته من قبل فبدلا من أن يشكرها على ما فعلته له اخذ يضربها ويهينها خاصة بعدما أصبح لها طفل وهو الآن في الرابعة من عمره فأخذه منها وطلقها ليزيد من عذابها وهو الان يطالبها بالمال ليعيد لها ابنها وخاصة بعدما أخذت منه المحكمة معظم أمواله وانفق الباقي من نقودهم على الخمر والقمار..
لهذا جاءت تطلب مني ان اعيد لها ابنها بالقانون لأنه لا يوجد لديها المال الكافي لطليقها الجشع وأخذت بالبكاء والتوسل..
نظرت لحالها ورق قلبي لها فوافقت ووعدتها بان اعيده لها, وقد حصل ما اردنا فبعد شهرين من الذهاب للمحاكم حكم لنا بإعادة طفلها لها,,فرحت كثيرا وشكرتني على ما فعلت وطلبت مني المجيء الى بيتها لتعرفني على ابنها فلبيت الدعوة وذهبت.
كانت تبدو في أجمل صورها,دعتني للدخول وعرفتني على طفلها بعدها جلسنا وأخذنا بالحديث سألتها كيف عرفت رقم هاتفي ومكان إقامتي فقالت لي بان من حكم على زوجها هو حسن وانها قد لجأت اليه بعد ان ساءت الأوضاع بينها وبين زوجها فنصحها بان تاتي الي وانه هو من أعطاها عنواني..
أحضرت لي فنجانآ من القهوة شربته و نظرت الى ساعتي فوجدت أن الوقت قد تأخر قمت ودعتها وغادرت..
بقينا على هذه الحال إما أن اذهب إليها أو تأتي هي,واستمرت لقاءاتنا,كنا نتحدث كثيرا ونعيد ذكريات الماضي وبما كان بيننا من حب,,عاد قلبي ينبض لها من جديد..
فقررت أن أفاتحها بموضوع الزواج,وأخبرتها بذلك وطلبت منها التفكير بعرضي
أطرقت رأسها لكنها سرعان ما أجابت بالموافقة دون الحاجة للتفكير…
فحددنا موعد الزواج وبعد حوالي الشهر جاء اليوم الذي سأتزوج به من حب حياتي.
فأعددت نفسي وأنا في قمة السعادة وعندما هممت بلبس قميصي رأيت الندبة التي خلفتها الرصاصة على كتفي فتذكرت ما فعلته بي والذي لربما نسيته للحظة من الزمن
جلست وأنا أسال نفسي هل من الممكن أن أنسى ما فعلته بي؟! أيمكن نسيان جرحها لي بكل تلك السهولة؟؟!! فجرح كتفي قد زال ألمه لكنه ما زال محفورا على جسدي بشكل علامة,,وهكذا هو جرحها لي…
قررت عدم الذهاب إليها والزواج منها فهي لا تستحقني خرجت ومشيت في الشارع وأنا سعيد ربما لأنني اكتشفت بيني وبين نفسي بأنني لم اعد أحبها حقا كما من قبل…بل أنا مجرد رجل أراد أن يعيد كرامته التي فقدها من سنين…..
نضال احمد 1962